سورة الكهف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاثة، قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً، ثم نزلت هذه الآية، اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد، وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً، وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً، فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه، وعن كلامه عليه السلام، أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور، وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله.
الثاني: أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول: أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل، وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها.
المسألة الثانية: قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا، وفيه قولان: الأول: التقدير: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أن يأذن لك في ذلك القول، والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار.
القول الثاني: أن يكون التقدير: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً} إلا أن تقول: {إِن شَاء الله} والسبب في أنه لابد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد، ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق، فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد، والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول: {إِن شَاء الله} حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير.
المسألة الثالثة: اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة، وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل، أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها لا تصلح عذراً في هذا الباب، لأن المغلوب لا يمنع الغالب.
إذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال: إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة، فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً، ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله: {إِن شَاء الله} تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث، ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب، فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه؟ قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة، وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع.
المسألة الرابعة: احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً * أَن يَشَاء الله} قالوا: الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ} ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال، فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء.
والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] والمراد سيأتي أمر الله، أما قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ففيه وجهان:
الأول: أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه، وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة، وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً، واحتج ابن عباس بقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لأن الظاهر أن المراد من قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} هو الذي تقدم ذكره في قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} وقوله: {واذكر رَّبَّكَ} غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال: إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب، واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً، أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود، والإيمان، يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا يرجع عليك، فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن المنصور كلامه ورضي به.
واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه. وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه. فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي، والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد.
قال تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] وقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً، فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه:
أحدها: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة.
وثانيها: واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي.
وثالثها: حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها، وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال تعالى: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} وفيه وجوه:
الأول: أن ترك قوله: {أَن يَشَاء الله} ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله: {لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} المراد منه ذكر هذه الجملة.
الثاني: إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به.
والثالث: أن قوله: {لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف. وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك، وأما قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا * قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} قولان: الأول: أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكذا إلى أن قال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله: وقالوا ولبثوا في كهفهم.
والقول الثاني: أن قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة، وأما قوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظاهرا} وقوله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السموات والأرض} لا يوجب أن ما قبله حكاية، وذلك لأنه تعالى أراد: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السموات والأرض} فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله: {سِنِينَ} عطف بيان لقوله: {ثلثمائة} لأنه لما قال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله: {ثلثمائة} فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة.
وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: {نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا} [الكهف: 103].
المسألة الثالثة: قوله: {وازدادوا تِسْعًا}؟ المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا: لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين؟ وما الفائدة في قوله: {وازدادوا تِسْعًا}؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية، وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول، ويمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها، وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم، وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} وهذه كلمة تذكر في التعجب، والمعنى ما أبصره وما أسمعه، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175] ثم قال تعالى: {مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ} وفيه وجوه:
الأول: ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل.
الثاني: ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه.
الثالث: أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم. ثم قال: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه. والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده. وحاصله يرجع إلى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ} أو على قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك.
المسألة الرابعة: اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم، أما الزمان الذي حصلوا فيه، فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح، وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحاق.
وقال قوم: إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة.
وأما مكان هذا الكهف، فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم، قال: فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره، ثم قال القفال: والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف، وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك، فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فقال لابن عباس: لا أنتهي حتى أعلم حالهم، فبعث أناساً فقال لهم: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم، وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه.
المسألة الخامسة: اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة.
أحدها: أنه تعالى قادر على كل الممكنات.
والثاني: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات.
وثالثها: أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك هاهنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل، وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة.
وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً: لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة، وأقول: هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة. والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها. ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف، ثم قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.


{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة، وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال: {واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ} وفي الآية مسألة وهي: أن قوله: {اتل} يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال: {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله: {اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ كتاب رَبّكَ} معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره، فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً.
أما قوله: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة: هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى: {لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل: 103] والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد.


{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك، فإذا حضرنا لم يحضروا، وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا. وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل. ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ بِهِمُ بالغداة والعشى} [الأنعام: 52] ففي تلك الآية نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله: {واصبر نَفْسَكَ} أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمى، أما قوله: {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة.
المسألة الثانية: في قوله: {بالغداة والعشى} وجوه:
الأول: المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل: ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس.
الثاني: أن المراد صلاة الفجر والعصر.
الثالث: المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه، ثم قال: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ} ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر:
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ***
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يزدري فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله: {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} نصب في موضع الحال. يعني أنك (إن) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا، ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله: {أَغْفَلْنَا} يدل على هذا المعنى، قالت المعتزلة: المراد بقوله تعالى: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه، والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم: قاتلناكم فما أجبناكم، وسألناكم فما أبخلناكم، وهجوناكم فما أفحمناكم، أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ثم نقول: حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم.
الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك.
الثالث: لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو، ويقال: كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال: وانكسر واندفع.
الرابع: قوله تعالى: {واتبع هَوَاهُ} ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه.
والجواب: قوله المراد من قوله: {أَغْفَلْنَا} أي وجدناه غافلاً، وليس المارد تحصيل الغفلة فيه.
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه:
أحدها: أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان.
وثانيها: أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان.
وثالثها: أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول، أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان.
الوجه الثاني: في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله: {أَغْفَلْنَا} على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجداً للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة، فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل، وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر، لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية، أما الثاني فهو أيضاً باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه، فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين. فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة، فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله، وهذه نكتة قاطعة في إثبات هذا المطلوب، وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} هو إيجاد الغفلة لا وجدانها، أما حديث المدح والذم فقد عارضناه مراراً وأطواراً بالعلم والداعي، أما قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى، أما قوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء، لا ذكر الواو، فنقول: هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار، وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله، ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفاً لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال، وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً أخرى. فأحدها: أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صباً وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6]. والوجه الثاني: أن معنى قوله: {أَغْفَلْنَا} أي تركناه غافلاً فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه.
وثالثها: أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في: الوجه الأول: إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر، فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه. وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه، وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه، وقد يقال في: الوجه الثاني: إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه، ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا، وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
المسألة الثانية: قوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ} يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة، والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله، وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته. والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق، وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات، فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله: {واتبع هَوَاهُ}.
المسألة الثالثة: قيل: {فُرُطًا} أي مجاوزاً للحد من قولهم: فرس فرط، إذا كان متقدماً الخيل، قال الليث: الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط، وأنشد شعراً:
لقد كلفني شططا *** وأمراً خائباً فرطا
أي مضيعاً، فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة، والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال: {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ واتبع هَوَاهُ} ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارئ يقرأ القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع، فقال عليه السلام: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا» وقال: «أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8